دعائم الأمن والسلام في الإسلام 2024.

ما أحوجنا اليوم إلى الحديث عن الجهاد الإسلامي قبل التحدث عن مبادئ السلام في الإسلام، ذلك لأن الأمة الإسلامية والشعوب العربية تمر اليوم في مرحلة تاريخية من أدق المراحل في التاريخ ألا وهي مرحلة الصراع الفاصل مع الدول الكبيرة، وهي مرحلة تتطلب دراسة استقصائية واسعة النطاق تحدد مصير الأمة وتثبت كيانها وتؤكد حقيقة وجودها وذاتها في المجالات الدولية وتؤمن بأهمية التراث الروحي والدين الذي صقل الأمة العربية في الماضي وما زال هو العرق النابض والقلب المتدفق بالحياة في صميم أمتنا ومستهدف آمالنا وأفكارنا.

ولكن قبل الدعوة إلى الجهاد يجدر بنا أن نزيل ما علق في أذهان بعض الناس من أن معنى الجهاد هو العدوان أو القضاء على أتباع الديانات الأخرى. كلا! فإن النظرة العجلى سرعان ما تتبدد أمام الحقائق وفي مخابر الدرس والتمحيص.

لقد شغف الإسلام بإقامة السلام بين العالم باعتباره أساس تقدم الشعوب والأمم وموئل المدنية والحضارة فلا يتم العمران والازدهار ولا تنبعث النهضة إلا في ظل السلام وتوافر الاطمئنان والأمان، وعندئذ يظهر الخير والإنتاج وتعم السعادة والرفاهة. ولن تهدأ الدنيا من المنازعات أو يسكن مرجل الغليان فيها إلا باعتناق نظرية السلام في الإسلام، تلك النظرة الشاملة الجذرية التي ترتكز على دعائم ثلاثة، وهي: السلام النفسي أو الروحي والسلام الاجتماعي والسلام العالمي.

أما السلام النفسي أو الروحي فلا يتحقق إلا بالإيمان، والإيمان هو إذعان النفس لليقين بالفرق بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة والحق والباطل والعدل والظلم، وبأن على الوجود مسيطراً يرضى بالخير ولا يرضى بالشر، وهو الإله القادر الفرد الصم الحي القيوم خالق الكون وبارئ النسم ومالك يوم الدين في المعاد. بهذا الإيمان تقوى العزيمة وترتفع الهمة وتسمو النفس البشرية وتنعم بالأمن والطمأنينة وتتخلص من قيود الأهواء الجامحة والمطامع المسيطرة وآفات التردد والحيرة والارتباك وبواعث القلق والاضطراب، لا سيما عند نزول الشدائد وظلمات الأحداث، سواء في ذلك الأفراد أم الجماعات. ونظراً لأهمية السلام الروحي لسائر البشر كان أهم ما يحرص عليه المسلم هو عافية النفس وعافية الضمير ونقاء القلب وصفاء السريرة، وهو الدعاء الذي علمه الرسول عليه السلام لعائشة إذا رأت ليلة القدر «اللهم إني أسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة».

وإذا توافر السلام الروحي بإشراق الإيمان في ربوع النفس اطمأن الإنسان واتجه إلى معالم الخير والحق والإنتاج. والنفس المطمئنة هي طريق النجاة بي يدي الخالق، قال سبحانه: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي». ولما كانت الذات الإلهية القدسية هي مصدر الإلهام الروحي ومبعث الرحمة والعفو الغفران كان ذكر لفظ الجلالة «الله» باعثاً على الاطمئنان باعتباره شعار المسلم الأسمى «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، بل إن من أسماء الله الحسنى «السلام المؤمن»، فالله هو السلام وإليه السلام ومنه السلام، فحيّنا ربنا بالسلام، وتلك التحية هي في ذلك اللقاء الرائع في الدار الآخرة بين المؤمنين وخالقهم حيث يبدؤهم بتحية السلام «تحيتهم يومَ يلقونه سلام وأعدّ لهم أجراً كريماً». والملائكة أيضاً تستقبل وفود المؤمنين بهذا النشيد «سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين». وبهذا يظهر أن السلام هو شعار المسلم وحقيقته وغايته وتشريعه، وهذا السلام الروحي هو الذي دعا إليه الرسول عليه السلام ملوكَ العالم وأمراء العرب بقوله في خطاب كل منهم «أسلم تسلم»، وهو أيضاً الواقع العملي في سلوك المسلمين حين لقائهم وفراقهم بتبادلهم شعار «السلام عليكم». ومن هنا طالبَ الإسلام بإفشاء السلام على من عرفنا ومن لم نعرف. وكأن السلام هو الآية التي ترددها الألسنة على أوتار القلوب ونغماتها في كل مناسبة. ولذا قال تعالى: «فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة» [النور:61].

أما السلام الاجتماعي فهو محك الإيمان وأثر العقيدة الصحيحة وهو الحقل الإنمائي العام الذي يتميز فيه المؤمن الصالح من غير الصالح. وفي سبيل تحقيق السلم والأمن في المجتمع هدم الإسلام برج العصبية القبلية والعنصرية والجنسية وندد بالاعتزاز بالآباء والأجداد وأقام الرابطة الإسلامية على أساس من الفضيلة والتقوى والمثل العليا، وحرم التخاصم والتنازع والشحناء بين الجماعة الإسلامية، قال تعالى: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين». كما أن الإسلام حرم أيضاً كل ما يكون ذريعة إلى التنازع أو يؤدي إلى الخصام وذلك مثل الغيبة والنميمة والتجسس والتلصص والهمز واللمز والمبايعات الربوية والقماء والاعتداء على الأموال والأنساب والأعراض والقذف والسباب والشتم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»، وقال: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبعْ بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره. التقوى ههنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه».

وهكذا يقيم الإسلام الرابطة بين أبناء المجتمع حماية لمبدأ السلام على أساس المحبة والإلفة والتعاون والتضامن والإيثار ونبذ الخصومات والإخاء الدائم «إنما المؤمنون إخوة» أي في الدين والحرمة لا في النسب. ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمحالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. فالمؤمنون إخوان لا تفرق بينهم العصبيات والجنسيات.

بهذا كله يتحقق السلام الاجتماعي والأمن والسكينة وتتوطد دعائم المجتمع على وجه لا تصدعه الأحداث ولا تنال من هيبته الخطوب.

أما السلام العالمي الدولي فهو المنهج الأسمى والمقصد الأعلى الذي ينشده الإسلام في دنيا الوجود، ويظهر هذا من تطور تاريخ الدعوة الإسلامية وفي مراحلها المختلفة وتشريعها الخالد. فقد ظل الرسول عليه السلام وصحابته من بعده نحو أربعة عشر عاماً يتحمّلون مختلف ألوان العذاب والإيذاء والاضطهاد دون أن يؤذن لرسول الله بردّ العدوان، وإنما نجد العكس في التشريع، فالله يخاطب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: «ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئة ادفعْ بالتي هي أحسن السيئةَ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم»، «خذ العفوَ وأمرْ بالعرف وأعرض عن الجاهلين». وكان الرسول صلوات الله عليه إذا بعث بعثاً يقول: «تألّفوا الناس وتأنّوا بهم ولا تُغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت من مدر ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحبّ إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم». وكان يقول عليه السلام:«يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».

وإنه مما رأيت بعد البحث والدرس ومقابلة الأدلة والجمع بينها أن القاعدة الأصيلة في علاقتنا بالشعوب غير الإسلامية هي السلم حتى يكون اعتداء أو حرب، ولا يصح أن نفهم أن الجهاد مبدأ هجومي عدواني، وإنما هو على العكس مبدأ وقائي إما لرد العدوان أو لمنع الفتنة في الدين، أو لنصرة المظلوم والمستضعفين في الأرض، أو للدفاع عن النفس وحماية الدعوة الإسلامية حين تبليغها للناس جميعاً. وليس الباعث على القتال هو الكفر أو المخالفة في العقيدة وإنما هو الاعتداء، ولا يجوز قتال غير المقاتلة، والحرب ضرورة فقط والضرورة تقدّر بقدرها، والرحمة والإنسانية وحماية المدنية هو رائد المسلمين في حروبهم، والحرية الدينية مكفولة في الإسلام «لا إكراه في الدين». وهل يعقل أن يعمل السيف في موقع الحجة والبرهان؟

والإسلام يحرض على تدعيم العلاقات السلمية بين الأمم لتسهيل تبادل المنافع الاقتصادية وتحقيق المقاصد الاجتماعية وعقد أواصر المودة والتعاون وانتفاع كل أمة بما لدى الأمم الأخرى من ثقافة وعلم وخبرة في سبيل خير الإنسانية ودفعها نحو التقدم والازدهار والسلام.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى مبدأ السلام وتؤثره على الحرب مثل قوله تعالى: «وإن جنحوا للسلم فاجتح لها وتوكل على الله»، ومثل: «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلامَ لستَ مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا»، «فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً». وهذه الآيات لا تعارض الآيات الأخرى الداعية إلى الجهاد مثل: «وجاهدوا في الله حق جهاده» ومثل: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر… حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» فمثل هذه الآيات تفهم على أساس سبب النزول، فهي إما لرد العدوان أو لنقض العهد أو لتعليم فنون القتال أو لتقرير نهاية الحرب والوصول إلى السلم بعقد المعاهدات. وكذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تفهم على هذا النحو، كما بيّنت ذلك في كتاب «آثار الحرب».

وقد يتساءل بعض الناس عن طبيعة الفتح الإسلامي وانتشار الدعوة الإسلامية ظانين أن للسيف المقام الأول في قبول الدين الجديد، ولكن الواقع التاريخي والجغرافي يؤكد أن الإسلام لم ينتشر في شتى عهوده بالسيف وإنما انتشر لما تجسد في دعوته من آيات وعظات وقناعة وبرهان وتجاوب مع الفطرة الإنسانية ودعوة للحق والخير والتوحيد في إطار من التسامح والحرية والبساطة ووضوح العقيدة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وإقرار الفضيلة والمعروف ونبذ المنكر والرذيلة.

وفي رأينا أن السلام العالمي المنشود اليوم لن يتحقق إلا إذا زال الاستعمار الأثيم من الوجود وترفعت القادة عن دواعي الهوى والطمع وحب الذات وأعيدت الأراضي المسلوبة لأصحابها وارتفعت راية الحق والعدل والمساواة، وهذا هو القانون الذي سارت عليه الفتوحات الإسلامية فهي لم تستهدف فتحاً مادياً ولا توسعاً إقليمياً ولا استعماراً بغيضاً، وإنما كان الهدف منها إقرار السلام ودفع العدوان ومناصرة المثل العليا. وصدق الله العظيم حيث يقول: «إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحبّ كل خوان كفور. أذِن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلِموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرِجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع اللهِ الناسَ بعضهم ببعض لهدمت صوامعُ وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن اللهُ من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور» [الحج:38-41].

السلم المسلح في الإسلام

الحرب قديمة بقدم الإنسان، وهي سنة من سنن الاجتماع البشري، ووصفٌ ملازم لجميع الكائنات الحية بسبب تنازع المصالح وتغايُر الأهواء وحب السيطرة ودافع إرضاء الذات، غير أن تلك الغرائز يمكن تعديلها وإصلاحها وتوجيهها نحو المثل العليا بدليل أن الإنسانية تقبلت الأديان السماوية ومبادئ الأخلاق العالية. ولهذا فإنا نؤكد ضرورة الحلول السلمية في كل نزاع وهو ما تحرص عليه ديانات السماء وينادي به دعاة الإصلاح وعلماء الاجتماع في كل زمان. وقد ساهمت الديانة المسيحية في تقرير السلام في الأرض وتخفيف حدة المنازعات الهمجية في القرون الوسطى، وأدى نشاط رجال الدين من أجل السلام إلى توطيد دعائمه والعمل على تجنيب العالم ويلات الحروب.

وجاء الإسلام بدعوته السلمية إلى الآفاق في حدود الحفاظ على الكرامة الإنسانية والعزة وبقاء الجماعة الإسلامية وفي صالح المجموعة البشرية حتى لا يفسد نظام الطبيعة وكيلا تنحدر القيم العليا وتحل محلها أوباء الرذيلة ومفاسد الفوضى واختلال النواميس الطبيعية. ولم يشهر المسلمون سيفاً إلا حينما أصبح الإسلام في وسط مذأبة من الناس يراد به السوء من كل جانب، فكانت الحرب ضرورة طبيعية في الإسلام وليست قاعدة يخطط المسلمون في ضوئها غزو العالم بأسره. وبذلك يظهر أن الإسلام دين يواجه الواقع ولا يفر منه جرياً مع سنة تنازع البقاء وتصارع الأهواء، فإذا ما قضي على النزاع في وكره روعيت الحاجة إلى الطمأنينة والاستقرار. قال تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».

وهذا هو أسمى ما وصلت إليه البشرية فقررت ضرورة صيانة السلم والأمن الدوليين كما نص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة، ولكن بجانب ذلك تسابقت الدول في ميدان التسلح الرهيب وانتهوا أخيراً إلى ما سموه بمبدأ السلم المسلح. غير أن خداع ذلك المبدأ لاينطلي على الناس، فقد أثبتت الشواهد والأمثال الكثيرة من واقع تكرر الحروب الحديثة خرق المواثيق الدولية على أن المبدأ السابق غير معتقد به ويخفي وراءه أطماعاً لا حصر لها. بخلاف ما نلمسه في عقيدة المسلمين من أن المسلم يجب أن يكون حقيقة واقعة. وما أروع تلك الكلمة عثرتُ عليها مخطوط لابن الصلاح حيث قال: «إن الله تعالى ما أراد فناء الخلق ولا خلَقهم ليقتلوا، وإنما أبيح قتلهم لعارض ضرر وجِد منهم، لأن الدنيا ليست دار جزاء، بل الجزاء في الآخرة».

وأما دورنا نحن المسلمين اليوم فينبغي أن يكون موقف الحذر اليقظ، فالعدو يتربص بنا الدوائر، قال الله سبحانه: «ولا يزالون يقاتلونكم حتى يرودكم عن دينكم إن استطاعوا» وإن مما يخجل حقاً أن تنام أعيننا والصهيونية العالمية تحضن بيوضها وتفرخ أعشاشها وتنتج غلمان أشأم في بلادنا وعلى أرضنا المقدسة ونحن العرب في أحزابنا فرحون وعن الخطر المحدق بنا لاهون. فهل يدعونا داعي الجهاد مرة أخرى فنطهر الأرض من لوثات هؤلاء وإن إيماننا يعنفنا في كل صباح ومساء وما بقي إلا أن نقول: لقد ثارت ثائرتنا واشتدت عريكتنا وغلا الدم العربي فينا فواجبنا أن نضمخ سيوفنا بدماء أعدائنا ونقرع أبواب الجنة بجماجم هؤلاء الغاصبين. وعندها ننعم بالراحة الكبرى، ولا بد لنا في كل آونة من إعداد القوى المختلفة وتهيئة الوسائل الرادعة الحاسمة وتعبئة شتى الإمكانيات العلمية والفكرية والصناعية والحربية لخوض غمار الوغى وميدان الشرف والخلود.

وإن مثال إسرائيل وتكالب الدول الاستعمارية على شرقنا الأوسط ليؤكد أن فكرة القتال عند غير المسلمين كانت وما زالت في فكرة اغتصاب واعتداء، وتعصب واستعلاء، وجشع وإبادة وكبرياء؛ أما عند المسلمين فهي فكرة تكوين ودفاع وإنقاذ وإصلاح، ولكن أنى للحق أن ينتصر؟ فالحق والحرية والنظام لا يمكن أن تعيش إلا في ظل القوة والرهبة، قال الله تعالى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناسُ بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس»، والمراد من الحديد في الآية هو القوة السياسية والحربية. وفي الحديث الصحيح: «ما بعث اللهُ نبياً إلا في منعة من قومه». وهكذا يظهر أن السلام في الإسلام ليس بمعنى الاستسلام والضعف التخاذل أو إلقاء السلاح وسبات الأمة، وإنما الواجب إعداد العدد وشحن الثغور وتجهيز الشعب بمختلف الطاقات والسبق الحربي. قال الله تعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم». والقوة تشمل الروح العسكرية الوثابة والقوة المادية الضاربة.

وهدف الإسلام من تشريع القتال في غاية السمو، ولا قتال إن اضطررنا إليه إلا للرحمة بمجموع الأمة أن تفسد، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين. والرحمة تقتضي إقامة العدل بين الناس، فليست الرحمة في أدق معانيها إلا إحدى ثمرات العدالة، والرحمة العادلة لا تسمح بالاستسلام للباطل أو الخضوع للظالم. وهذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا نبي الرحمة وأنا نبي الملحمة».

واعتماد العرب على قانون العدل والرحمة والمساواة السائد بين الدول الغربية أو الشرقية وفي أذهان القادة هو ضرب من الخيال وتلمس للمحال. قال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد حين أرسله لحرب اليمامة: «حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف، والرمح بالرمح». والعدل في الواقع هو تكافؤ القوى، وخير القوى ما حفظ به الحق وعظمت به المنفعة ووقف لهيبته كل من المتنافسين عند حده حتى يستقر السلام بينهم أو تشمل الطمأنينة نفوسهم، وتعود الحقوق لأصحابها والبلاد لسكانها، والأوكان لآسادها وتطرد من البقاع ذئابها ولصوصها. وصدق الله العظيم حيث يقول: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين» [البقرة: 194]. ويجب ألا نغتر بقوتهم أو ننخدع بدعاياتهم وأكاذيبهم، فهم جنود الباطل وأعوان الشيطان، ونحن أرباب الحق وأنصار الله. قال تعالى: «لأنتم أشد رهبة في صدروهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون. لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون».. الآيات من سورة الحشر (13-17).

الجيريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.