هل جعل الإسلام حدوداً لحرية التفكير؟ 2024.

من أخطر الدعاوى التي يدعيها فريق من المسلمين ويردون بها على أي مناقشة فكرية قولهم إننا مسلمون وليس في الإسلام حرية تفكير على إطلاقها بل هناك ضوابط ينبغي التوقف عندها!!.. مشكلة هذا القول لا تتوقف عند دلالته الحرفية بل تتعداها إلى النتائج المترتبة على طريقة استعماله الذي يقود إلى آثار فكرية وحضارية خطيرة إذ إنه تحت دعوى الضوابط يمكن أن تجهض أي عملية فكرية ويمكن لأي واحد أن ينصب نفسه قاضياً فيحاكم الناس إلى فهمه ويتهم من يتجاوز هذا الفهم بأنه تخطى حدود الدين ذاته، وبذلك فإن القول بضوابط الحرية الفكرية ما هو إلا تعبير جذاب عن تقويض حرية الفكر من جذورها…

مشكلة الذين يقولون بحدود حرية التفكير أن الإسلام في نظرهم هو فهمهم ومبلغهم من العلم لذلك فإن الحدود التي يقصدونها عملياً لا تعني ألا تتجاوز دين الله بل أيضاً ألا تتجاوز آراءهم وأفهامهم البشرية لأن هذه الآراء هي الميزان الذي يحاكمون الناس إليه فلا يحق لأحد أن يرى ما لا يرونه وإلا عدّوه خارجاً عن الدين وعدواً لله ولرسوله وللمؤمنين.. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن آراءهم متفاوتة فهذا يعني أنه صار بوسع أي أحد أن يمارس الإرهاب الفكري ضد كل صاحب رأي بحجة تجاوزه لحدود الإسلام وهو يقصد بالإسلام فهمه طبعاً فنحن أمام نسخ متعددة من الإسلام بقدر تعدد آرائنا وكل رأي من هذه الآراء هو الإسلام الذي يحرم الخروج عنه ويحق محاكمة من يخرج عنه وربما استباحة دمه!!
القول بضوابط حرية التفكير يعني أن الله يقيد عقولنا ويحرم علينا التساؤل وبذلك فإنه لا يسعنا ما وسع سقراط وأرسطو من التفكير الحر لأن الفكر الحر يتعارض مع الإسلام كما يزعمون فإذا قال أحد الناس: أريد أن أفكر بحريتي فإنهم يقولون له إن الإسلام ليس مكانك الصحيح وإن لم يكن مسلماً فكأنهم يقولون له لا تدخل الإسلام إلا إذا تخليت عن حريتك الفكرية، وبذلك صرنا فتنةً للذين كفروا نصد عن سبيل الله وننفر الناس من دين الله لأن الحرية مقدسة في نفوس أحرار العالم ومن غير المتوقع حين نضعهم بين خيارين إما الفكر الحر وإما الفكر المقيد أن يختاروا الثاني..
هل حقاً أن الدين يقيد حرية التفكير أم أننا نحن المسلمين من وضعنا على عقولنا الإصر والأغلال وأسأنا فهم ديننا وقيدنا أنفسنا بما لم ينزل به الله سلطاناً!!
أولاً إن الحديث عن حدود لحرية التفكير يلغي أي قيمة لحرية التفكير من أساسه فالتفكير بطبيعته عشوائي ومنطلق في كافة الاتجاهات والأسئلة تقفز إلى عقل الإنسان فجأةً دون استئذان وتلح عليه ويستحيل أن تقول لإنسان فكر بحرية لكن في اتجاه واحد ولا تفكر في الاتجاه الآخر.. إن أي حد يوضع أمام حرية التفكير ينسف مبدأ الحرية من أساسه ويصبح كأنه لم يكن فالقول بأن هناك حرية فكر ولكن بحدود قول متناقض فإما أن نقول هناك حرية تفكير لا تتجزأ وإما أن نقول إنه لا حرية للتفكير ولا سبيل بينهما…
ثانياً إن الدين يقيم بناءه على أساس حرية الفكر الكاملة وتقديم الإجابات الشافية على كل الأسئلة التي يمكن أن تخطر في قلوب البشر ويقدس البرهان كمعيار للحق فلا دعوى إلا ببرهان، والقرآن يخضع أي مسألة لمعيار البرهان وحده وحتى القضية الوجودية الكبرى وهي قضية الألوهية فإن القرآن يثبتها بالبرهان ويفتح باب المحاورة الفكرية أمام المشركين ليدلوا بما عندهم من أدلة وبراهين على صدق دعواهم بوجود إله غير الله: " ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه" فمنطلق ذم القرآن لهؤلاء المشركين هو مجانبتهم لأسس المنهج العلمي واتباعهم الظن وتقديم دعوى بغير دليل، وليس لأنهم أطلقوا العنان لتفكيرهم فالظن والهوى مخالف لأسس التفكير العلمي وليس صفةً له… وهذا الأسلوب القرآني في مطالبة المخالفين بالالتزام بأسس الحوار الفكري حاضر بقوة حتى يسهل ملاحظة أنه سمة رئيسة من سمات المنهج القرآني.. تأملوا مثلاً: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، "قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون "، "قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون" " ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"
إن مطالبة القرآن للمخالفين بالالتزام بالمنهج العلمي المتمثل في ضرورة الاعتماد على البرهان ليس قيداً على حرية التفكير بل إن الالتزام بالبرهان وحده هو الذي يحرر المجادلة الفكرية من آفات الهوى والظن ويحقق الحرية الفكرية الحقيقية…
القرآن هو كتاب هداية إلى الناس من خالقهم ومع كونه علوي المصدر وقدرته على اعتماد أسلوب الأمر وحده إلا أنه يتخذ من طريقة الإقناع العقلي عماده وليس سلطة الإجبار الفوقي…تأملوا هذه الآية:" أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة".. إن الله تعالى يستعمل المنطق البشري البسيط للرد على دعوى قيلت بحقه بغير علم مع أنه كان قادراً على النفي وحسب دون اضطرار إلى الاستغراق في كل هذا التبيان والإقناع العقلي، ولكنه يبث فينا روح اعتماد العقل أساساً لمعرفة الحق.. والقرآن لا يتخلى عن منهج المحاججة العقلية حتى في أقصى الحالات التي يسيء فيها الناس الأدب مع خالقهم فحتى حين اتهم اليهود الله تعالى بأن يده مغلولة كان المنطق العقلي حاضراً في الرد: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"… إننا نحن البشر لو أسيء الأدب إلينا أو اعتدي على حقنا فإننا ننسى أي لغة للمنطق والعقل ونرد الشتيمة بأضعافها ونعد الحديث بالعقل في مواجهة الشتيمة علامة ضعف واستسلام لكن رسوخ منهج القرآن في احترام لغة العقل والحجة يبلغ حداً أنه لا يتخلى عنه حتى في مواجهة أولئك الذين يسيئون الأدب ويتخلون عن المنهج العلمي في مخاطبة الله تعالى..

الجيريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.