عقيدة الإنسان في الإسلام 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الأخوة الكرام، إن من لوازم الإيمان بالله وتوحيده أن تستقيم على أمره، وألح وأكرر: أن دروس العقيدة ليست أن تعلم ما ينبغي أن نعتقد، ولكن أن تعلم ما ينبغي أن نعتقد، وما ينبغي أن تكون عليه بناءً على هذه العقيدة، جانب ينبغي أن تعتقده، وجانب ينبغي أن تكون عليه.
موقع الاستقامة من الدين:
تصور سيارة، وقد سمِّيت سيارة من أجل أن تسير، جهزت بكل شيء إلا المحرك، فالمحرك يجعلها تسير، فإذا ألغي المحرك ألغيت السيارة، يجب أن نعلم جميعاً أن موقع الاستقامة من الدين كموقع المحرك من السيارة، فإذا تعطل هذا المحرك ألغيت صفة السيارة.

إنّ كل نشاطات المسلم إن لم تكن الاستقامة مرافقة لها فلا قيمة لها إطلاقاً، بل ينقلب الدين إلى ثقافة، أو إلى تراث، أو إلى فلكلور، أو إلى عادات، أو إلى تقاليد، أما الدين فهو التزام.
هذا الراعي الذي سأله ابن عمر: بعني هذه الشاة، وخذ ثمنها؟ قال: ليست لي، قال له: قل لصاحبها: ماتت، وخذ ثمنها؟ قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟
هذا الراعي ثقافته محدودة جداً، ما عنده مكتبة ضخمة، ولا مؤلفات أبداً، لكنه خاف من الله،

فوضع يده على جوهر الدين، والذي يحمل شهادات لا تعد ولا تحصى، وله مؤلفات كبيرة جداً، وله اسم لامع جداً في سماء المعرفة، ولم يكن مستقيماً، فإنّ هذا الراعي أفقه منه، كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه.

قال الله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
[سورة فصلت: 30]
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
[سورة الأحقاف: 13]
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ)
[سورة هود: 112]

إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، الاستقامة حدية، كما يطبقها النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق يجب أن يطبقها المؤمن، وهو أدنى مرتبة في الإيمان، وأقلّ مؤمن يجب أن يستقيم كاستقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها حدية، كما لو أن أعلى طبيب في الأرض إذا أراد أن يعطي حقنة يعقمها، وأقلّ ممرّض في العالم إن أراد أن يعطي حقنة يعقمها تعقيماً حدياً ينطبق على أعلى طبيب، وعلى أدنى ممرض،

قال تعالى:
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ)
[سورة فصلت: 6]
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)
[سورة الجن: 16]
جميل جداً أن تعبد الله العبادات الشعائرية، جميل جداً أن تتقن صلاتك، جميل جداً أن تتقن صيامك، أن تتقن حجك، أن تتقن إنفاق الزكاة، والأجمل من هذا كله أن تكون مستقيماً قبل أن تصلي.
لذلك عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ قَالَ قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِم
[مسلم]

يعني قل لي قولاً جامعاً مانعاً، قل لي قولاً موجزاً يكفيني، قل لي قولاً أستغني به عن كل قوي فقال عليه الصلاة والسلام:
قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِم

لا شيء من نشاطات المسلم يعدل أن تستقيم على أمر الله بعد سلامة العقيدة، لأن كل ثمار الدين لا تقطف إلا بعد الاستقامة، ومن دون استقامة يغدو الإسلام تراثاً وعادات وتقاليد، بل يغدو أقرب إلى الفلكلور منه إلى التشريع.

في بعض الروايات أن أعرابيًا سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا السؤال، فلما قال له:
قل آمن بالله، ثم استقم، قال: أريد أخف من ذلك، قال: إذاً فاستعد للبلاء
إن رأينا الاستقامة صعبةً إذاً فلنستعد للبلاء.

هناك إنسان معه التهاب حاد في المعدة، سأل الطبيب: ماذا تنصحنى أن آكل؟ قال: ممنوع إلا بضعة أكلات بطاطا، ورز، وتفاح فقط، قال له: هذه صعبة، قال: استعد لعملية جراحية، إن لم تقبل هذه الحمية الشديدة فاستعد لعملية جراحية،
البشارة للمستقيمين،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

استقيموا ولن تحصوا
[ابن ماجه عن ثوبان بسند صحيح]

حقيقة الاستقامة:
أيها الإخوة، مرة ثانية، مع أن هذا المثل أردده كثيراً، التجارة لها آلاف النشاطات، لكنها مضغوطة كلها بكلمة واحدة، الربح، فإن لم تربح فلست تاجراً، كذلك هناك آلاف النشاطات في الدين، تقام مؤتمرات، تؤلف كتب، تلقى محاضرات، نراعي التراث الإسلامي، الحضارة الإسلامية، الفن الإسلامي، كل هذه النشاطات وقد تزيد على مئة ألف نشاط تضغط كلها في كلمة واحدة، الاستقامة، فإن لم تكن هذه الاستقامة فكل هذه النشاطات لا قيمة لها.

أنا أتكلم بهذا الكلام، ولا أبالغ، لكن من أجل أن توفروا أوقاتكم، من أجل أن تضعوا يدكم على جوهر الدين، ما لم تلتزم، ما لم تكن وقافاً عند حدود الله، ما لم تأتمر بما أمر، ما لم تنته عما عنه نهى وزجر، ما لم يرَك الله حيث أمرك، ما لم يفتقدك حيث نهاك، ما لم تخش الله في كسب مالك، ما لم تخش الله في إنفاق مالك، ما لم تخش الله في توزيع ثروتك، ما لم تخش الله في تطليق زوجتك، ما لم تخش الله في زواجك، ما لم تخش الله في احتفالاتك، في أفراحك، في أتراحك، ما لم تخش الله في سفرك، ما لم تخش الله في إقامتك، ما لم ترعَ منهج الله، فلا قيمة لكل أعمالك، لأن الطريق إلى الله مسدود، والخط الذي ينبغي أن يكون ساخناً بينك وبين الله مقطوع.

هذه حقيقة الاستقامة، لها الموقع الأول في الدين، ما لم تكن مستقيماً فلا قيمة لكل انتماءاتك الإسلامية، الآن هناك كلمات كثيرة، يقال لك: عنده خلفية إسلامية، خير إن شاء الله، عنده أرضية إسلامية، عنده نزعة إسلامية، عنده فكر إسلامي، عنده ثقافة إسلامية، عنده اهتمامات إسلامية، عنده توجهات إسلامية، عنده عاطفة إسلامية، لكنه ليس مسلماً،

ما لم تستقم فلا تفكر أن تقطف من ثمار الدين شيئاً
ما لم تقف عند الحلال والحرام، ما لم تتورع أن تأكل درهماً من حرام فلن تفلح، وترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام.
أنا أؤكد لك بالدليل يوم سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن المفلس:
أتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار
[مسلم، الترمذي]

هو يصلي، قال تعالى:
(إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)
[سورة التوبة: 54]
يصلون.
من حج بمال حرام، و ضع رجله في الركاب، وقال: لبيك اللهم لبيك، ينادى: أن لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردود عليك.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ)
[سورة التوبة: 53]
مَن لم يدع قول الزور، والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ
[البخاري]

هذه حقيقة، أنت تطلب من الله الكرامة، وهو يطلب منك الاستقامة، أنت مسلم حينما تستقيم، وإلا فأنت مثقف، عندك ثقافة إسلامية، ما لم نجد إسلامك في عملك.

الاستقامه كما فهمها الصحابة:
سيدنا أبو بكر قال:
الاستقامة ألا تشرك بالله شيئاً
سيدنا الصديق فهم الاستقامة على أنها التوحيد، وهذا فهم سديد، أنت حينما توحد لا تكذب، حينما توحد لا تنافق، حينما توحد لا تتضعضع أمام غني، أنت حينما توحد لا تغش المسلمين، الأمر بيد الله، هو الرزاق، هو الحافظ، علاقة الاستقامة بالتوحيد علاقة يسموها علاقة عضوية، أنت مستقيم بقدر ما أنت موحد، وأنت ضعيف الاستقامة بقدر ضعف توحيدك، الرزاق هو الله، فحينما يكذب الإنسان من أجل الرزق معنى هذا أنه غير موحد، حينما ينافق من أجل الحفاظ على منصبه معنى هذا أنه غير موحد، سيدنا الصديق فهم الاستقامة على أنها التوحيد.

سيدنا عمر قال:
الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب
أما سيدنا الفاروق ففهِم الاستقامة على أن تأتمر بما أمر، وأن تنتهي عما عنه نهى وزجر، الاستقامة الأمر والنهي،

سيدنا عثمان
قال: استقاموا أخلصوا العمل لله
سيدنا عثمان رضي الله عنه فهم الاستقامة على أنها الإخلاص، كل صحابي فهمها من زاوية، الإخلاص، الإنسان بذكاء قد يمثل، لكن المخلص هو المستقيم، الاستقامة التي تفعلها، وتجاهد نفسك وهواك من أجلها لا تقبل إلا إذا كنت مخلصاً.

سيدنا علي قال:
استقاموا أدوا الفرائض

سيدنا علي فهم الاستقامة على أن تؤدي الفرائض، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه، صلى قيام الليل، وفاتته صلاة الفجر، لا، صلاة الفجر أولى، لأنها فرض، ما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه.
ابن عمر قال:

دينكَ دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، خذ عن الذين استقاموا عقيدتهم وتصوراتهم، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا

تعريف الاستقامة:
أيها الإخوة الكرام: من أدق تعريفات الاستقامة:
هي فعل ما ينبغي فعله، وترك ما ينبغي تركه
هذا هو الدين، الدين حركة، الدين سلوك، الدين التزام، إنه طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.

يتبع……

الاستقامة سلوك الصراط المستقيم، ويشمل فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها الظاهرة والباطنة، وتتعلق الاستقامة بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات.

تعانةً، وعلى أمر الله تطبيقاً،

الاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين: هي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء، والاستقامة فضلاً عن صحة العقيدة والثبات على الحق.

من جوانب الاستقامة:
لو تعمقنا في معنى استقاموا لوجدنا أنها تعني

1. استقامة العقيدة:
ومن صحت عقيدته صح عمله وقُبل عمله، ومن فسدت عقيدته فسد عمله ولم يقبل عمله الطيب، لأنه ذو عقيدة فاسدة، فلعل في معنى قول الله عز وجل:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)
[سورة الأحقاف]

أي صحت عقيدتهم، فإن صحت العقيدة صح العمل،
أن توحد الله، وألا ترى مع الله أحداً، أن ترى رؤية عميقة ثابتة واضحة صارخة أن الأمر بيد الله وحده،
(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)
[سورة هود]

(مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)
[سورة الكهف]

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)
[سورة الزخرف]
(لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)
[سورة الأعراف]
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)
[سورة الزمر]

هذا أهم شيء في الاستقامة العقدية، أو الاستقامة الاعتقادية، أن تعتقد أن الله واحد، وأنه وحده المتصرف.

أيها الإخوة الكرام،ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، وأن نهاية العلم التوحيد، نهاية نهاية العلم أن توحد الله، وأن توحيد الله مضمون رسالات السماء كلها.

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25))
[سورة الأنبياء]

الإنسان متى يعصي؟ حينما يرى جهة غير الله تنفع وتضر، تعطي وتمنع ترفع وتخفض، تعز وتذل، إذاً يرضيها بمعصية الله، أما حينما لا يرى مع الله أحداً يرى يد الله وحدها تعمل، يرى الله في السماء إلهًا،وفي الأرض إلهًا، يرى الله خلّاق وفعّالاً، حينما يوقن المرء أن الأمر كله بيد الله، لابد من أن يتجه إليه وحده.

فالمؤمن الموحد لا يرجو غير الله ولا يتوكل إلا على الله ولا يعقد الأمل إلا على الله ولا يخاف إلا الله ولا يحب إلا الله، فإذا أحب المؤمنين فمن حبه لله، إن أحب أنبيائه المرسلين فمن حبه لله، إن أحب الأعمال الصالحة فمن حبه لله، هذا حب في الله وقد فرق بعض العلماء الكبار الحب في الله عن الحب مع الله، شتان بين الحب في الله وبين الحب مع الله، الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك. فلا تتخذ غير الله رباً ولا ولياً ولا حكماً هذا توحيد الألوهية، أن تكون مستقيماً على أمر الله، قانعاً بما أتاك الله، راضياً بما قسمه الله لك، لا تعتمد إلا على الله لا ترجو إلا الله، لا تفرح إلا بما عند الله، لا تخاف إلا من الله، لا ترى في الأرض جهة تعمل إلا الله.

أيها الإخوة الكرام، لذلك هناك نفاق يخرج من الملة أي من الدين، النفاق الاعتقادي، هو عكس الاستقامة الاعتقادية، أن تقول مالا تعتقد، أن تجامل الناس فيما يعتقدون وأنت لا تعتقد ذلك، هذا هو النفاق الاعتقادي الذي يخرج من الملة وهذا الذي قال الله عنه:
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ)
[سورة النساء]

وما من مؤمن ورع إلا ويخشى على نفسه من النفاق، وهذا التابعي الجليل الذي التقى بأربعين صحابياً ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقاً من شدة خوفه من الله وورعه.

أيها الإخوة الكرام، هناك نفاق عملي، أن تأتي أفعالك على غير أقوالك أن تأتي أقوالك على غير معتقداتك هذا نفاق اعتقادي يخرج من الملة أشد من الكفر، أما أن تأتي أفعالك خلاف كلامك هذا نفاق عملي، هذا صاحبه وقع في معصية كبيرة لكن يرجى له التوبة،

2. الاستقامة أن تثبت على الحق:
الاستقامة أن تثبت على الحق هذه ثورة التي تظهر عند بعض الشباب ثم تهمد، هذا الإقبال ثم الإدبار، هذا الالتفات ثم التولي، هذه الموجة الطارئة التي تصيب بعض الشباب هذه لا تعني أنهم مستقيمون على أمر الله، الاستقامة تعني الثبات.
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)
[سورة الأحزاب]

ينبغي أن تكون مستقيماً في الرخاء وفي الشدة، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، في المنشط والبركة، حينما تكون شاباً كسيدنا أسامة، وحينما تكون شيخاً كأبي أيوب الأنصاري، الاستقامة تعني الثبات، الإنسان يستقيم إذا كان فقيراً أحياناً، ويفسق إذا اغتنى، يستقيم إذا كان أعزبَ، ويقصر إذا كان متزوجاً، يستقيم إذا كانت الدنيا منصرفة عنه، فإذا أقبلت عليه قد لا يستقيم، من معاني الاستقامة: الثبات.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)
ماذا قال بعضهم في غزوة الخندق؟

أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟

(مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)
[سورة الأحزاب]

لذلك لا بد من امتحانات، من أجل فرز المؤمنين.
(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)
[سورة آل عمران]

لابد من فرز، وأحياناً بعض الشدائد هي التي تفرز.
(إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً)
[سورة الأحزاب]

أما الذين في قلوبهم مرض فقالوا:
(مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا)
[سورة الأحزاب]

أول معنى من معاني الاستقامة: الثبات في المنشط وفي المكر، في العسر واليسر، في الشباب والشيخوخة، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، قبل الزواج وبعد الزواج، قبل التجارة وبعد التجارة، ومن معاني الاستقامة: أن تقف عند حدود الله لأن تجاوز الحدود طغيان، وهذا يتناقض مع الاستقامة.

أيها الإخوة: إن الاستقامة في التحليل الدقيق ليست سوى تمحور المسلم حول مبادئه ومعتقداته، مهما كلف ذلك من عنت ومشقة، حقيقة التدين التمحور حول المبدأ مهما كلف من ثمن،
سيدنا عمر حينما جاءه جَبَلة مسلماً رحب به، فلما طغى وضرب بدوياً، وهشم أنفه، وشكاه البدوي إلى عمر، استدعى الملك الغساني جبلة، قال له: أرضِ الفتى، لابد من إرضائه، والقصة طويلة، قال جبلة: كان وهماً في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أرغمتني، قال عمر:
عنق المرتد بالسيف تحز، عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى

لقد ضحى بملك، ولم يضحِ بمبدأ، هذه المجتمعات التي يمكن أن ترقى إلى أعلى عليين، المبادئ فيها كل شيء، و المصالح ليست بشيء، لكن المجتمعات حينما تتخلف تصبح المصالح كل شيء، ولو ضحينا بكل المبادئ الإنسانية، إما أن يكون المبدأ محوراً، وإما أن تكون المصلحة محوراً.

أيها الإخوة الكرام: حقيقة الاستقامة تمحور حول المبادئ والمعتقدات، مهما كلف من عنت ومشقة، ومهما ضيّع صاحبها من فرص ومكاسب.

أيها الإخوة الكرام: من الثابت أن المرء إذا أراد أن يعيش وفق مبادئه، ورغب إلى جانب ذلك أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى فإنه بذلك يحاول الجمع بين نقيضين، هذا مستحيل، مستحيل أن تتمسك تمسكاً تاماً بمبادئك، وأن تحقق مصالحك في أعلى درجة، هما نقيضان لا يجتمعان،

قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ
[أحمد]
فلابد من امتحان صعب.

سئل الإمام الشافعي: أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء، فقال:
لن تمكنوا قبل أن تبتلوا

أيها الإخوة: إن تحقيق المصلحة على حساب المبدأ يعد انتصاراً لشهوة أو لمصلحة آنية، أما الانتصار للمبدأ على حساب المصلحة فإنه تربع على قمة من الشعور بالسعادة، والرضا، والنصر، والحكمة، والانسجام، والثقة بالنفس، وقد أثبتت المبادئ أنها قادرة على أن تكرِّر الانتصار للمرة تلو المرة، كما أثبت الجري خلف الشهوات دون قيد ولا رادع أنه يحقق نوعاً من المتع والمكاسب الآنية، لكنه لا يفتأ أن يرتد على صاحبه بالتدمير الذاتي، حيث ينمو الظاهر على حساب فساد الباطن،

ويتألف الشكل على حساب المضمون، فحينما تنتصر لمبدأك تشعر بسعادة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم، تشعر بالانسجام بين ما تعمل وما تعتقد، تشعر بقيمتك كإنسان، تشعر أنك تحمل رسالة، تشعر أنك المخلوق الأول، تشعر أنك تنتمي إلى رب الأرض والسماوات، تشعر أنك رباني، وحينما تنتصر لمصلحتك على حساب مبدئك تستمتع بالحياة قليلاً:

(قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ)
[سورة النساء: الآية 77]

وتتعذب كثيراً، وتنهار من الداخل، وتدمِّر ذاتك.

أيها الإخوة الكرام: إن المبدأ يشبه نظارة ملونة، إذا وضعناها على أعيننا فإن كل شيء يتلّون بلونها، فصاحب المبدأ له طريقته الخاصة في الرؤيا، والإدراك، والتقويم، إنه حينما يرى الناس يتسابقون على الاستحواذ على مكسب دنيوي يستغرب ذلك، ويترفع عن ذلك، لأن مبدأه يقول له شيئاً آخراً غير ما تقوله الغرائز للآخرين، وإذا رأى الناس يخلطون في المال الحرام تقززت نفسه، لأنه يعلم ضخامة العقوبة التي تنتظر أولئك، وإذا أصيب بمصيبة فإنه يتجلد، ويتصبر، لأنه يرجو المثوبة عليها من الله تعالى.

أيها الإخوة الكرام: الحياة درس بليغ، وامتحان صعب، وهذه هي الحقيقة.

أيها الإخوة: لو نظرنا إلى الناس، فهناك من همّه الأكبر النجاح في عمله، والمحافظة على سمعته، وهناك من يتمحور حول المتعة، فهو يبحث عنها في كل ناد وواد، وهناك من يتمحور حول المال، فهو يجوب العالم بحثاً عنه، وهناك من يبحث عن السيطرة والنفوذ، فهو مستعد لأن يفعل كل شيء في سبيل التمكن والتحكم، وتجد ثلّة قليلة بين هذا الطوفان من البشر استهدفت أن تحيا لله، وأن تبحث عن رضوانه، ومن ثَمّ فإنه يمكن أن تفسّر كل أنشطتها ومقاصدها في ضوء هذا المحور، وهذه الثلّة هي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفصح عن محورها باعتباره رائداً لها وموجهاً وهادياً:
(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
[سورة الأنعام: الآية 162]

هناك من همّه الشهوة، هناك من همّه الشهرة، هناك من همّه تكديس الأموال، هناك من همّه السيطرة، هناك من همّه رضوان الله عز وجل والتقرب إليه، وشتان بين هؤلاء وبين هذا النموذج:

(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)
[سورة الأنعام]

أيها الإخوة الكرام: دائماً وأبداً أردّد هذه المقولة: الحقيقة المُرّة أفضل ألف مَرة من الوهم المريح، إن الذين يعلنون الولاء للمبادئ كثيرون جداً في العالم، بل هم أكثر أهل الأرض، الإعلان بالولاء للمبادئ، ولكن لا تجد في سلوكهم، ولا في مواقفهم، ولا في حركتهم اليومية ما يؤكد هذا الولاء للحق، بل ليس عندهم برهان على ما يدّعون، يمكن أن نقول: إن أكثر الناس ديّنون، وأنا أعني ما أقول، ديناً معلناً، وديناً حقيقياً، ودين المرء الحقيقي هو الذي يمحور حياته من أجله، الإنسان منطقي، والإنسان يحرص على مكانته، يتحدث بالقيم، يعلن ولاءه للمبادئ، ولكن لا تجد في حركته اليومية ما يؤكد هذا الولاء، لذلك لكل إنسان دينان، دين حقيقي، ودين معلن، هذا الذي يتحدث عنه في المجالس هو الدين المعلن، أما الذي يمارسه كل يوم في خلوته وجلوته هو الدين الحقيقي، وسوف نحاسب على الدين الحقيقي.

أيها الإخوة: حقيقة مذهلة، إن من طبيعة المبدأ أنه يمد أصحابه بقوى وإمكانات خارقة وخارجة عن إمكاناتهم الحقيقية، تجد إنساناً صاحب مبدأ، له إنجاز لا يصدق، هذا الإنجاز لا يتناسب مع إمكاناته، لكن الله أمدّه بقدرات استثنائية، لأنه صدّق معه.
إن من طبيعة المبدأ أن يمد أصحابه بقوى وإمكانات خارقة وخارجة عن أرصدتهم الفعلية، ولذا فإن التضحيات الجلية لا تصدر إلا عن أصحاب المبادئ، وأصحاب المبادئ هم أنفع الناسِ للناسِ.

أيها الإخوة الكرام: التمحور حول المبدأ هو الذي يمنح الحياة معنى، يجعلها تختلف عن حياة السوائم الذليلة، التي تحيا من أجل التكاثر ومجرد البقاء.

المبدأ هو الذي يضفي على تصرفاتنا الانسجام والمنطقية، ويجعلها واضحة مفهومة.

أيها الإخوة الكرام: ولابد من واقعية من حين إلى آخر، نحن لا ننكر أن الظروف الصعبة توهن من سيطرة المبدأ على السلوك، لكن تلك الظروف هي التي تمنحنا العلامة الفارقة بين أناس تشبعوا بمبادئهم حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم، وأناس لا تكون المبادئ بالنسبة لهم أكثر من تكبيل شكلي لبشريتهم.

3. استقامة الجوارح:

للعين عبادتها وللأذن عبادتها، ولليد وللرجل، هذه الجوارح كل جارحة ينبغي أن تضبط بمنهج الله عز وجل.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ…
[مسند الإمام أحمد]

المعاصي التي يجترحها اللسان لا تعد ولا تحصى، بعض الأئمة الكبار أحصى منها عدداً كبيراً، هناك الغيبة والنميمة والهمز واللمز والاحتقار والسخرية والمحاكاة وما إلى ذلك، فحينما يستقيم لسان الإنسان يستقيم قلبه، لذلك من الذي ينجو من عذاب الله؟ من عد كلامه من عمله ‍! أما المقصرون، بعض المنافقين يقول باللغة الدارجة: كله حكي بحكي.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ
[سنن الترمذي]

ورد أن قذف محصنة يعدل، أي يستحق صاحبه العذاب مائة سنة ! قصف محصنة يهدم عمل مئة سنة ! وهذا باللسان فقط، وحينما يتوهم الناس أن معاصيهم فقط أن يشربوا الخمر، وأن يزنوا،وأن يسرقوا، وأن يقتلوا، وما سوى ذلك من اللمم، هذا الذي ضيعهم،وهذا الذي مزقهم،وهذا الذي أفسد حياتهم،وهذا الذي حجبهم عن الله عز وجل،

لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ…

ويقول عليه الصلاة والسلام:
… أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ
[صحيح البخاري]
فلابد من أن يكون قلبك مستقيماً.
(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)
[سورة الشعراء]

من أجمل ما قاله العلماء عن القلب السليم: هو قلب لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، هو قلب لا يقبل خبراً يتناقض مع وحي الله، هو قلب لا يحكم غير شرع الله، ولا يعبد غير الله.

ما معنى قول النبي الكريم في الحديث:
…وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ …
[صحيح البخاري]

أي لا يرى إلا بنور الله، ضبط عينه عن أي نظرة لا ترضي الله، وإن قلنا:العين بداية البصيرة لا يعتقد،ولا يرى حقيقة إلا وفق ما جاء به الوحيان، الكتاب والسنّة، وأما سمعه لا ينظر إلى باطل،ولا إلى كذب،ولا إلى بهتان، ولا إلى غيبة،ولا إلى نميمة،ولا إلى كلام يتناقض مع كلام الله،ولا يصغي إلى اقتراحات تتناقض مع أصل الدين، يسمع بنور الله.

كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ
ولا يفعل شيئاً لا يرضي الله بيده،
وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا
وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا
ولا يتجه إلى مكان لا يرضي الله يتجه نحو مساجد الله، نحو حفل يرضي الله، نحو إصلاح بين زوجين، نحو دعوة إلى الله، حركته في سبيل الله، وأعماله مضبوطة بمنهج الله، ورؤيته وسمعه وفق وحي الله.

4. الاستقامة ألا تطغى:
أيها الإخوة الكرام
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا)
[سورة هود]
نقف وقفة متأنية عند كلمة: ولا تطغوا، لا تطغوا نهي يشير إشارة واضحة إلى أكبر عقبة تعترض سبيل الاستقامة، يبدو أن من طبيعة البسط، من طبيعة القوة، من طبيعة الغنى، من طبيعة التمكن في الأرض الطغيان، ولا تطغوا.

أيها الإخوة: قال تعالى:
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)
[سورة الشورى: الآية 27]
(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)
[سورة العلق]
أن رأى نفسه قوياً، غنياً، صحيحاً، ممكّناً في الأرض، يبدو هذا من خصائص النفس، أنها إذا استغنت متوهمة عن ربها، أو قويت، أو اغتنت، أو كان حولها أناس كثيرون تعتزّ بهم طغت، وبغت، لذلك يذكرنا الله عز وجل فيقول:
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا)
[سورة هود: الآية 112]
أيها الإخوة: الطغيان مجاوزة الحد، هذا الطغيان يتجسد في صور متعددة، فبغي القوة البطشُ بالضعفاء، وبغيُ الجاه والنفوذ الظلمُ وأكلُ الحقوق، و بغيُ العلم اعتمادُ العالم على ما لديه من شهرة ومكانة، مما يدفعه إلى القول بغير دليل، ورد أقوال المخالفين من غير حجة ولا برهان، طغيانُ المال التبذيرُ والإسرافُ والتوسعُ الزائد في المتع والمرفهات:
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)
[سورة هود: الآية 112]

أيها المستقيم، إما أن تكون غنياً، قوياً، عالماً كبيراً، ممكّناً في الأرض، فأكبر منزلق ينتظرك أن تطغى، أن تتجاوز الحد، لثقة بمالك، أو بعلمك، أو بشهرتك، أو بقوتك:

(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا)
[سورة هود: الآية 112]
وقد يكون المستقيم ضعيفاً فقيراً، في أدنى درجات السلم الاجتماعي، على خلاف الحالة الأولى، هذا المستقيم الضعيف، هذا الذي يشعر بحاجة إلى كل شيء، ما منزلقه؟ منزلق آخر:
(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)
[سورة هود: الآية 113]

أيها الإخوة: أصحاب الطموحات، أصحاب التطلعات المصلحية، الضعفاء، مَن يمرون بظروف صعبة قد ينزلقون إلى مصانعة الظالمين، ومداهنة الأشرار، وإشعارهم بالرضا عما هم فيه، كي يستفيدوا من قوتهم، وما لديهم من متاع في تحسين أحوالهم، وتحقيق مكاسبهم، مع أن طبيعة الاستقامة والالتزام بهذه الحال تقتضي المناصحة والهجر، والضغط الأدبي، والتحذير من التمادي، هذا كله منافٍ للركون، لكن الشيطان يبرهن دائماً أنه يملك خبرات متميزة في تزيين الباطل، فقد يدّعي إنسان مؤمن، وهو مستقيم أنه من الحكمة أن يفعل كذا وكذا، هو ليس من الحكمة، ولكن من تزيين الشيطان، فالقوي، والغني، والمتمكن من العلم منزلقه الطغيان، والضعيف المحتاج الذي يحتاج إلى تحقيق مصالحه منزلقه ممالأة الظلمة.

(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا)
كأن الله سبحانه وتعالى بهذا النهي الذي جاء بعد الأمر عرّف مضمون الأمر، الاستقامة ألا تطغى، ألا تتجاوز الحدود، من تجاوز الحدود فهو من الحضرة مطرود، ألا تطغى على من حولك، ألا تطغى عليهم بلسانك ولا بفعلك ولا بمعاملتك ولا بنظراتك ولا بسوء ظنك.

الاستقامة ليست نسبية:
فالاستقامة أيها الإخوة: ليست نسبية، ولكنها حدّية، أما الانحراف نسبي إذا قلت هذا المستودع محكم، للإحكام حالة واحدة، أما إذا قلت غير محكم عدم الإحكام نسبي، قد يفرغ ما فيه في ساعة، وقد يفرغ ما فيه في سنة، وقد يفرغ ما فيه في خمس سنوات، عدم الإحكام نسبي، أما الإحكام حّدي.

نتائج الاستقامة:
قال الله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ)
[سورة فصلت الآية: 30-31]
أقف عند كلمة
(أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)
[سورة فصلت]
هذا الزمن هناك ماض، وهناك حاضر، وهناك مستقبل
(أَلَّا تَخَافُوا)
من المستقبل، لا يوجد مفاجآت.
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)
[سورة التوبة الآية: 51]
المؤمن بعين الله، بحفظه، برعايته، لأن توقع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها، أنت من خوف الفقر في فقر، من خوف المرض في مرض
(أَلَّا تَخَافُوا)
هذه الكلمة غطت المستقبل
(وَلَا تَحْزَنُواوَلَا تَحْزَنُوا)
لا تندم على ما فات وهذه الكلمة غطت الماضي، فالمستقيم يمنحه الله حالة عجيبة لا يخشى من المستقبل، ولا يندم على الماضي
(أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)
لذلك ليس في قاموس المؤمن لو،
لا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان
(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)
الآن:
(وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)
لكرامة المؤمن عند الله يجعل الله له نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة، في الدنيا
(أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)
فإذا وافته المنية
(وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
ومن آثار الاستقامة:
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)
[سورة الجن]
أكبر دافع إلى الاستقامة هو الإيمان بالآخرة:
قال الله تعالى:
(وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ)
[سورة المؤمنون]
تبين أنه أكبر دافع إلى أن تستقيم أن تؤمن بالآخرة، هناك حساب.

خلاصة القول:
أيها الأخوة، الاستقامة من لوازم الإيمان، لعلي ألححت أكثر مما يجب: على أن العقيدة الصحيحة ليست أن تعلم ما ينبغي، لكن العقيدة الصحيحة الكاملة أن تعلم ما ينبغي أن تعتقد، وأن تكون على ما ينبغي أن تكون، من استقامة، ومن توكل، ومن توحيد، ومن مراقبة، ومن أعمال صالحة، دائماً اسأل نفسك: أين أنا من صفات المؤمن الناجي؟.
أيها الأخوة الكرام، يقول عليه الصلاة والسلام:
إنما العلم بالتعلم، وإنما الكرم بالتكرم، وإنما الحلم بالتحلم
وروعة هذا الدرس: أن ينقلب إلى سلوك، إلى سمت حسن، إلى صمت واع، إلى نطق بذكر الله،

أمرت أن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة
أي لا يكون المسلم مسلماً، إلا إذا كان متميزاً بأخلاقه، وسمته، وهيبته، وسكونه.

والحمد الله رب العالمين

منقول عن:
العقيدة – العقيدة من مفهوم القران والسنة – الدرس ( 28-40) : مستلزمات التوحيد -8- المراقبة والإستقامة
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ:

الموضوع كله للاخت المتفائلة برحمة الله قمت بتقسميه لانه طويل جدا

من الاحسن ان يقسم مثل هذا الموضوع الى كم من جزء لتتم الاستفادة منه الجيريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.