الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد وقعت لي نظرة تأمل على حديثٍ ارتعدت له فرائصي، ورجف له فؤادي، وخرت لقراءته قواي؛ لأنا عنه في منأى، فهو في واد ونحن في آخر، إلا من رحم ربي وقليلٌ جداً ما هم، سيما في ظل سيطرة الرأس مالية، وطغيان المادة، ولو عملنا بمقتضى هذا الحديث لاستقامت أمور ديننا ودنيانا، لكن إلى الله المشتكى من عزوفنا عن معاني التشريع وأسراره، وإن كانت مشاهير تعاليمه وآثاره.
هذا الحديث العظيم هو ما رواه الترمذي في جامعه برقم (2465) وابن ماجه في سننه برقم(4105) وغيرهما، وهو قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((من كانت الدنيا همه، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة))، وقد صححه الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى -.
فكان لي في هذا الحديث هذه النظرات، أسال أن ينفعني بها ومن قرأها أو مَرّ عليها:
أولها: ما نجده من تشتت في أمور أكثر الخلق، وما يورثه لهم من اضطرابات نفسية، ومشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية، سببه هو تفريق الله – سبحانه وتعالى -لأمورهم؛ لأنهم أقبلوا بكلياتهم على دنياهم، فكانت أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وغاية رغبتهم؛ وكانت هي (سدمهم) -كما في رواية الطبراني- أي: فيها ولَعُهم ولهجُهم، فأورثوا بذلك تفريقاً لما اجتمع من أمورهم، وتبديداً لسائر خططهم وأفكارهم؛ وتمزيقاً لشملهم؛ لأنهم جهلوا أو تجاهلوا المصدر الحقيقي، لاستقامة الأمور وصلاحها.
ثانيها: في قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((وجعل فقره بين عينيه))، وصف دقيق للحالة التي يكون عليها من جعل الدنيا همه وسدمه، فمهما جمع من مال، أو تكثر به من مبانٍ وعيال؛ فإنه مع ذلك يَعُد نفسه فقيراً، وتكاد نفسه أن تتقطع حسرة وألماً لانخفاض رصيده، أو نقصان ربحه، وما ذلك إلا لأن الله قد ضربه بعقوبة لم يشعر بها، وهي أنه – سبحانه – قد قضى أن يكون الفقرُ نصب عينيه، ملازماً له، لا ينفك عنه في حال من أحواله، والله المستعان!.
وهذه العقوبة قد ضرب بها أكثر الخلق في هذا الزمان، ممن نعاشرهم ونسمع عنهم، فيملكون أملاكاً بعضهم يعجز عن تعدادها، فإن جالسته قلت: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به هذا! ما تراه إلا يشكو من قلة الأرباح، وكثرة الديون، وتلاطم المشاكل، واجتماع الخصوم!.
ثالثها: في قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له))، إشعار منه – عليه الصلاة والسلام -، أن هذا الراكض بكل قواه بعد دنياه، لن ينال أولاً وأخيراً إلا ما قضي له به في الأزل؛ فعلام يهلك المرء نفسه؟
فما عليه إلا بذل أيسر الأسباب معتمِداً على مسببها – سبحانه -، ويأته ما قضي له لا محاله، كيف لا وقد قال – عليه الصلاة والسلام -: ((الرزق أشد طلبا للعبد من أجله)).
رابعها: في قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((من كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة))، إخبار منه – عليه الصلاة والسلام – بفضائل يتوج بها من كانت الآخرة همه، وهي أضداد للعقوبات التي ابتلى الله سبحاه بها الصنف الأول، يقول الكلاباذي -في بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار-: "إنما تكون الآخرة همه من جعل الله الغناء في قلبه، وجمع له شمله؛ لأنه لا يقبل على الآخرة إلا من استغنى عن الدنيا، فإن الدنيا حجاب الآخرة، فإذا رفع الحجاب عن بصر القلب رأى الآخرة بعين إيقانه، ومن نظر إلى الآخرة شغل عن الدنيا، صارت مرفوعة منه، متروكة عنه، قال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا فكأني أنظر إلى أهل الجنة".
فأول هذا الكرامات التي ينالها من كانت الآخرة همه: أن يجمع الله عليه أمره، فتراه مستقراً، مطمئناً، ساكن الجأش، مرتاح البال، وإن كان في حالة مادية يرثى له، لكن جعل الباري -سبحانه- غناه في قلبه، فهو معه حيث ما كان، كرامة له وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء، ولذا جاء في الحديث القدسي: ((يقول الله -سبحانه-: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك))، قال عنه الشيخ الألباني: صحيح، وأخرجه الترمذي برقم (2466)، فتجد كأن الدنيا بما فيها تحت يده، وهو لا يملك من بهرجها شيء.
وثاني الكرامات التي ينالها من جعل الآخرة همه أن يجعل الله الغنى في قلبه، وهذه حقيقة الغنى، ومنتهى الراحة والهناء، ويبين ذلك نبينا – عليه الصلاة والسلام – قائلا: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس))متفق عليه.
فمن رزقه الله الغنى في قلبه فقد منحه الخير كله، ومن نزعه من قلبه فلن يغنيه عرض الدنيا أجمع!.
وثالث الكرامات التي منحها الله – سبحانه – لمن جعل الآخرة همه، أن يأتيه رزقه من الدنيا شاء أم أبى، فهو أمرٌ مقضي به في الأزل، فلابد أن يأتيه، وخير ما يستجلب به طاعة الله – سبحانه -، وأعظمها الإقبال على الآخرة، فهي رأس كل طاعة وخير، كما أن الإقبال على الدنيا رأس كل خطيئة وشر.
وختاماً: فالدنيا مزرعة الآخرة عند الألِباء، فيزرعونها بحقٍ اليوم؛ ليجنوا ثمرتها غداً، وكل زارع يجني ثمرة ما زرع، فانظر لنفسك أيها العاقل! ما زرعك اليوم، لتتمتع بجنيه غداً أو تتألم.
والأمر كما قال ابن دقيق العيد – رحمه الله -: " السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها، على بالية لا ينفد عذابها".
فمن أقبل على زرع الأخرى حاز نفائسها ولم يفته نصيبه من الأولى، ومن زرع الفانية لا دنياه بقيت، ولا أخراه شرفت.
جماع الأمر: هو ما قاله من لا ينطق عن الهوى – عليه الصلاة والسلام -: ((من جعل الهوم هماً واحداً -هم المعاد- كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديتها هلك))، قال عنه العلامة الألباني: حسن، وهو عند ابن ماجه برقم (4106).
والله الموفق والهادي..
المختار الاسلامي