و قد تكلم في جواب هذا كثير من العلماء ، وخاضوا في حكمة إنزال المتشابه ، وذكروا أمورا بعضها قوي ، وبعضها لا يخلو من مقال ، وبعضها يتعجب الناظر فيه كيف أمكن أن يقال ، وبعضها لا يستحق الذكر .
أما أمثلها وأقواها فيما قال العلماء ، فهو أن الحكمة من إنزال المتشابه تتجلى في أمور:
الأول : أن الله أنزله مختبراً به عباده ؛ فأما المؤمن فلا يداخله فيه شك ولا يعتريه ريب ، وهو بين أمرين ، إما قادر على رده إلى المحكم ، وإما قائل : آمنا به كل من عند ربنا . إن لم يتبين له معناه ، فأمره كله خير ، وتعظم بذلك مثوبته ، وتزيد عند الله درجته .
وأما المنافق فيرتاب ولا يزيده القرآن إلاّ خسارا ، وأما من كان في قلبه زيغ -كأهل البدع – ، فيتبعون المتشابه ؛ ليفتنوا الناس عن القرآن وصحيح السنة وينـزلوه على مقتضى بدعتهم .
و سياق الآية وما بعدها دال على أن هذا من حكمة إنزال المتشابه ؛ إذ قال تعالى :
( و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلاّ أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ( [آل عمران : 7-8] .
فالمؤمنون رغبوا إلى ربهم أن لا يزيغ قلوبهم كما زاغت قلوب أهل الزيغ ، إذ هو – أي المتشابه – فتنة للعقول والقلوب ، وسألوا أن ينـزل عليهم رحمة يربط بها على قلوبهم وعقولهم فلا تزيغ ، وفي هذا الإشارة إلى أن أهل الزيغ والبدعة محرومون من بركة هذا الدعاء ، كل بحسب بدعته ، وبعده عن السنة .
وقد ذكر الله في القرآن أنه ينـزل ما يمتحن به عباده ؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانا ؛ ويضل غيرهم من أهل الضلال ، كما قال تعالى : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاُ يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين ( [البقرة : 26] .
قال الإمام عبدالرحمن السعدي في تفسيره : ( يقول تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاُ ما( أي مَثَلٍ كان (بعوضة فما فوقها( لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق ، الله لا يستحيي من الحق ( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم( فيفهمونها ويتفكرون فيها ، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ، إزداد بذلك علمهم وإيمانهم ، وإلاّ علموا أنها الحق ، وما اشتملت عليه حق ، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها ، لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا ، بل لحكمة بالغة ونعمة سابغة ، ( وأما الذي كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً( فيعترضون ويتحيرون ، فيزدادون كفراً إلى كفرهم ، كما ازداد المؤمنون إيماناً إلى إيمانهم ، ولهذا قال : ( يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً( فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية ، قال تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناُ وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون( [ التوبة : 124 – 125 ] فلا أعظم من نزول الآيات القرآنية ، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة وضلالة ، وزيادة شر إلى شرهم ، ولقوم منحة ورحمة وزيادة خير إلى خيرهم )(42) .
ومن هذا القبيل قوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادِ الذين أمنوا إلى صراط مستقيم( [الحج 52 – 54 ] .
قال ابن القيم : ( والمقصود أن قوله : (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض( هي لام التعليل على بابها ، وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف القلوب الثلاثة ، فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر ، والمخبتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه ، وهذا من أعظم حكمة هذا الإلقاء)(43) .
ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى : ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلّا طغياناً كبيراً( [الاسراء : 60] .
قال ابن كثير – بعدما ذكر تفسير ابن عباس : أن الرؤيا هي ليلة الإسراء ، والشجرة هي شجرة الزقوم – : ( وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد ، وغير واحد ، وتقدم أن ناساً رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق ؛ لأنه لم تحتمل عقولهم وقلوبهم ذلك ، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، وجعل الله ذلك ثباتاً ويقيناً لآخرين ، ولهذا قال : (إلاّ فتنة( . أي اختبارًا وامتحاناً ، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم ، كما أخبرهم رسول الله ( أنه رأى الجنة والنار ، ورأى شجرة الزقوم ، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل – لعنه الله- :هاتوا تمرا وزبداً ، فجعل يأكل هذا بهذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا )(44) .
فهذا كله يدل على أن الله يختبر عباده بما شاء ، وإنزاله المتشابه من هذا فإنه فتنة ، وقد ضل به كثير ممن ضل عن الحق ، كما رفع الله به أهل الإيمان بيقينهم ، ورسوخهم درجات من عنده .
– أن المشتبهات ليست في الأمور المطلوبة من المكلف العمل بها ، وإنما هي في بعض الأمور العقدية التي يطالب فيها المكلف بالتفويض والتسليم لله تعالى فيها ، ويقول :
( آمنا به كل من عند ربنا ( .
قال تعالى : ( و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا([المائدة : 48] .
وقال : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً( [الإسراء : 9] . وكيف يكون القرآن حاكماً إذا كان نزوله من أجل أن يصرف الناس عن تحكيمه في عقيدتهم ؟! قال عز وجل : ( آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ( [إبراهيم : 1].
وقال : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين( [النمل : 89] .
وقال : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه( [البقرة : 213] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/46-47) ، دار المدني ، جدة ، 1408 .
(43) شفاء العليل لابن القيم ص : 193 ، تحقيق محمد بدر الدين الحلبي ، دار الفكر ، بيروت ، 1978 .
(44) تفسير ابن كثير (3/48) ، مكتبة دار التراث ، القاهرة.
فائدة
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾1.
المحكم هو البيّن الواضح الذي لا يلتبس أمره ، وهذا هو الغالب في القرآن ، فهو أمّ الكتاب وأصل الكتاب ، وأما المتشابه ، فهو الذي يشتبه أمره على بعض الناس دون بعض ، فيعلمه العلماء ولا يعلمه الجهال ، ومنه ما لا يعلمه إلا الله تعالى .وأهل الحق يردون المتشابه إلى المحكم ، وأما أهل الزيغ فيتبعون المتشابه ، ويعارضون به المحكم ، ابتغاء الفتنة ، وجريا خلف التحريف والتضليل .