السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
– لفحة هواء صباحية باردة تسللت من نافذة الغرفة .. وصلت إلى عروقها ، فارتعشت واهتزت .. شدت غطاء السرير نحو رأسها والتحفته من كل جانب .. دفء لذيذ تسرب إلى عروقها .. نظرت إلى ساعة الحائط .. إنها تمام الثامنة .. عليها أن تكون في المستشفى بعد دقائق .. حاولت جاهدة أن تنتزع نفسها من بين ثنايا السرير .. الفراش لذيذ ودافئ ، وهي تشعر ببرودة غير معهودة .. لابد أنها مريضة .. ضحكت في سرها وقالت :" طبيب يداوي الناس وهو عليل" .. مدت يدها إلى صفحة وجهها .. إنها ساخنة ، حرارتها مرتفعة بالتأكيد ولا أحد في المنزل .. زوجها خرج قبل قليل كعادته إلى المصنع ولن يعود قبل الثالثة عصراً .. والأولاد سبقوه إلى مدارسهم ، إنها بحاجة إلى كأس من العصير .. نادت الشغالة من خلال أغطية السرير الكثيفة .. إلا أنها لم تسمع صوتها المبحوح .. ربما كانت على السطح تنشر الغسيل .. أقنعت نفسها بأن النوم في مثل هذه الحالات أفضل دواء ، ثم أخفت رأسها تحت الغطاء من جديد .. وغرقت في نوم عميق .. وبعد ساعات هبت من سريرها مذعورة .. تذكرت المرضى الذين ينتظرونها في المستشفى .. أدارت قرص الهاتف في غرفة نومها ، طلبت المسؤولة عن قسمها واعتذرت عن الحضور بسبب مرضها المفاجئ .. ما زال السرير الدافئ يغريها بالنوم ويشدها نحوه .. رنين الهاتف أيقظها من جديد .. رفعت السماعة .. سمعت صوت الشغالة تتحدث إلى رجل بلغتها الخاصة .. أنصتت ملياً .. كتمت أنفاسها .. الحديث يطول ، والمناقشة تشتد .. تتخللها ضحكات ساخنة .. لم تفهم شيئاً
سوى كلمة ماما .. ماما في البيت .. بعدين .. وقفت مذعورة .. أسرعت إلى غرفة الجلوس لتضبطها بجرمها المشهود إلا أن الشغالة وضعت السماعة بخفة وبرود وتظاهرت أنها تمسح الغبار حول الهاتف بمنشفة تحملها في يدها !! – مع من كنت تتكلمين ؟ – لا أحد .. لا أحد يرد .. – سمعتك تتكلمين قبل قليل .. – قلت : من .. من .. لا جواب .. أغلقت السماعة .. يا لها من كاذبة .. أحست بدوار خفيف .. ألقت بنفسها فوق الأريكة لم تكن تتوقع ما سمعت !! هذه الشغالة في خدمتهم منذ سنين .. لم تلحظ شيئاً عليها !! من هو المتكلم ؟.. ولماذا تكذب ؟.. ترى لو لم أكن في المنزل اليوم مريضة .. ما الذي كان سيحصل !! هل ستحضره إلى البيت كضيف عزيز ؟.. وهل .. وهل ..!! دوامة من الأسئلة جعلت آلام رأسها تتضاعف .. صور وأخيلة رسمها خيالها المحلق آثار الرعب في نفسها وأعاد إلى جسدها الواهي الرجفة والقشعريرة من جديد .. كيف لها أن تعرف الحقيقة وهي طول يومها في المستشفى بين مرضاها .. كيف لها أن تكتشف حقيقتها وهي لا تراها إلا في المساء .. كيف تحسبها أمينة على البيت والأولاد في غيابها .. كيف وكيف !! تذكرت ولدها الكبير .. بل المراهق الكبير .. كيف نتركه تحت رعايتها .. يا إلهي !! وابنتها الصغيرة وهي على أعتاب الصبا .. كيف ترعاها هذه الشغالة .. يا لها من قدوة ومربية !! وطفلتها الصغيرة .. عصفورة البيت ونسمته العليلة .. كيف تلقيها بين يديها حين تعود من رياض الأطفال ظهراً !! لا يزال سيل الأسئلة يجتاح كيانها ، ويعصف بنفسها المريضة .. قامت متثاقلة تبحث عن تلك الغريبة في أرجاء البيت .. رأت البيت نظيفاً مرتباً لامعاً .. أريج المنظفات ينبعث من زواياه .. كل شيء منظم مرتب إلل كيانها ووجدانها .. نظرت إلى الشغالة وهي تمسح دواليب المطبخ .. وجهها بريء لا يوحي بما تظنه فيها .. ربما .. ربما خانها سمعها أو خيالها المريض .. شربت كأساً من العصير .. عادت إلى غرفتها من جديد .. فجأة أصوات ضحكات تنبعث من أرجاء المنزل .. يا إلهي !! من في البيت في مثل هذه الساعة ؟ أسرعت إلى غرفة الضيوف .. الصوت يصدر من هناك .. فتحت الباب ثم أغلقته بسرعة .. إنه ولدها ومعه مجموعة من أصدقائه الشبان .. ماذا يفعلون في بيتها الآن !! وكيف تركوا
في مثل هذا الوقت المبكر !! إنها تشم رائحة السجائر .. صرخت بأعلى صوتها : سعيد .. سعيد .. خرج خائفاً مذعوراً فاغراً فمه وقال : – أنت في البيت يا أمي !! خيراً إن شاء الله !! – بل أنت في البيت !! وفي مثل هذا الوقت ؟؟.. – خرجنا مبكرين من المدرسة فدعوت زملائي للفطور !! – وما هذه الرائحة المنبعثة من فمك ؟؟ هل دعوتهم لشرب السجائر أيضاً ؟؟ أم هم الذين دعوك ؟؟ – أقسم لك يا أمي .. – لا تقسم .. لا تقسم أرجوك .. رفعت يدها من دون وعي منها وهوت بها على صفحة وجهه !! عاودها الدوار من جديد .. كادت أن تقع أسرعت إلى غرفتها وهي تسمع وقع أقدام الشبان الهاربة فوق السلم .. يا إلهي .. ألا يحق لها أن تمرض يوماً في حياتها وترتاح في البيت !! أيدور هذا كله في غيابها وهي غافلة لا تعلم !! صرخت بأعلى صوتها تنادي تلك الشغالة .. قالت لها بعصبية متناهية : – لماذا لم تخبريني بوجود سعيد وأصحابه في المنزل ؟؟ ردت ببرود وبلا مبالاة : – هو كل يوم مع أصدقائه في المنزل .. يطلب الفطور والشاي .. صرخت الأم .. والدخان أيضاً !! وأنت تعلمين .. أليس كذلك !! – نعم .. أنا أعلم .. ولكن سعيد طلب مني ألا أخبرك !! يا ويلتاه !! مطرقة جديدة تدق كيانها .. هذا يحصل كل يوم .. كيف ؟؟ لابد أنه يهرب من المدرسة .. والشغالة تعلم أنه يدخن ولم تخبرها بذلك .. إنها أمينة على أسرار ولدها !! .. كادت أن تنفجر غيظاً وألماً .. صوت الشغالة يعود إليها من جديد .. كيف تحملته سنين طويلة !! – "بابا في تلفون .. في يجي الحين ".. نظرت إلى الساعة .. إنها الواحدة ظهراً .. ليس من عادته أن يحضر في هذا الوقت !! ربما علم من المستشفى أنها مريضة .. جمعت قواها .. أسرعت إلى المطبخ .. عليها أن تنسى مصائبها المتتالية اليوم .. عليها أن تستقبله كما تستقبل ربات البيوت أزواجهن حين عودتهم من العمل متعبين ..
سوف تفاجئه بصنف من الطعام يحبه !! لبست أحلى ثيابها .. لونت وجهها لترسم عليه ظل العافية .. رسمت على شفتيها ابتسامة عريضة .. وحين دخل المنزل متلهفاً يسأل عن صحتها قالت : – أنا بخير .. لا لست متعبة .. أحببت أن أجعل إجازتي اليوم مفاجأة لكم .. نظر إليها ساخراً غير مصدق .. قالت : – ألا يحق لي أن أرتاح يوماً واحداً خلال سنوات عملي الطويلة ! أسرعت الشغالة تفتح باب المنزل ، لقد سمعت صوت حافلة المدرسة .. قالت : إنها عبير .. جاءت عبير .. وحين دخلت الصغيرة ورأت أمها في المنزل أبعدت الشغالة عن وجهها وألقت بنفسها بين ذراعي أمها .. قبلات ربيعية متتالية طبعتها الصغيرة على وجهها المتعب وقالت : – كم أنت جميلة اليوم يا أمي .. والبيت أيضاً جميل جداً بوجودك فيه .. قال لها أبوها مداعباً : وبابا .. ألا يستحق قبلة منك يا عصفورتي الصغيرة .. أخذت الصغيرة تتراقص وتزقزق مقلدة العصافير .. ثم تقفز بينهما كفراشة تنتقل من زهرة إلى أخرى .. شعرت الأم بنشاط وعافية .. غمرتها سعادة غابت عنها طويلاً .. وحين دخلت ابنتها الثانية صاحبة الخمسة عشر ربيعاً أسرعت إليها الأم معانقة مرحبة فسلمت عليها ببرود غير متوقع .. ثم أسرعت إلى غرفتها تدير قرص الهاتف وتتحدث إلى صديقتها في المدرسة .. لقد نسيت أن تسأل أمها عن سبب وجودها في المنزل في مثل هذا الوقت !! قالت لها الأم متوترة مضطربة : – هناء .. ألم تكوني مع صديقتك ؛ في المدرسة قبل دقائق !! – نعم .. ولكنني نسيت معها شيئاً مهماً .. أريد أن أذكرها به ! نظرت إليها أمها ملياً .. فرأت فيها صورة الشغالة وهي تتكلم مع صديقها في هذا الصباح .. أرعبتها هذه الصورة وأفزعتها !! اصفر وجهها وعاودها الصداع من جديد .. لاحظت ابنتها أنها متضايقة .. ورغم ذلك استمرت في مكالمتها الهاتفية !! تحلق الجميع حول مائدة الغداء .. سعيد خائف مضطرب .. يأكل بلا شهية .. نظرت إليه .. لونه شاحب .. عيناه زائغتان .. كأنها تراه لأول مرة في حياتها !! تعثرت اللقمة في حلقه .. بدأ يسعل سعالاً طويلاً .. أنفاسه لاهثة متقطعة .. نظرت إليه معاتبة كأنها تقول له هذا سبب الدخان يا ولدي !! أما هناء فكانت تأكل مسرعة .. كأن أمراً هاماً ينتظرها بعد الغداء .. بينما كان زوجها أكثرهم فرحاً وسعادة .. زوجته إلى جانبه وهو يتناول أشهى أصناف الطعام لديه .. قطع طعامه الشهي وقال : – نكهة مميزة .. طعم رائع !! لا أحد في الدنيا يطبخ هذا الصنف كما تطبخه أمكم يا أولاد !! الله .. وجودك اليوم عيشة ثانية يا دكتورة .. ليتها تدوم !!.. أما الصغيرة عبير فقد تناولت لقيمات صغيرة ثم أسندت رأسها فوق صدر أمها واستسلمت لنوم لذيذ عميق .. ضمتها الأم بشدة فقد أدركت مقدار حاجتها إلى صدرها وحنانها .. حاجتها إليهما أكثر من حاجتها إلى الطعام بكثير !! لا يزال سعيد مضطرباً خائفاً .. نظرت إليه حانية معاتبة وكأنها تقول له : اطمئن يا ولدي .. لن أخبر أباك بما حصل .. سوف أتولى الأمر بنفسي .ز قربت صحن الفاكهة إلى هناء وقالت لها : كلي يا حبيبتي بهدوء .. عانقتها هناء وقالت : – أمي .. أنا أغار من أختي الصغيرة .. هل تسمحين لي أن ألقي برأسي بين ذراعيك .. ضحك الجميع .. غمرتها سعادة فريدة لم تذقها منذ سنوات طويلة .. كانت تحسبهم كباراً يمكنهم الاعتماد على أنفسهم أثناء غيابها في العمل .. كانت تحسب عملها خدمة لهم ولمجتمعها كله .. هل عليها أن تعيد حساباتها مع نفسها اليوم !! هل عليها أن تزن أمورها بميزان جديد .. مشت بهدوء إلى غرفتها .. ارتدت ثياب العمل .. توجهت إلى باب المنزل .. طلبت من زوجها أن يوصلها إلى المستشفى .. نظر إليها الجميع مشدوهين .. قال لها زوجها حزيناً : – هل ستقطعين إجازتك المرضية يا أم سعيد ؟؟.. ألا تستطيعين بقاء يوم كامل معنا في المنزل !!.. أمسكت يده بشدة .. ونظرت إليه بحرارة وشوق .. غمزت إلى سعيد بطرف عينها مداعبة وقالت بثقة : أعتقد أن إجازتي ستطول .. بل ستطول جداً .. يا أحبتي !
ربي يعينا